سوريا الجديدة والمغرب العربي- قراءات ومواقف في مفترق طرق

إن الوضع السوري المستجد، عقب سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، يمثل منعطفاً حاسماً ليس فقط للشعب السوري، بل لكافة أركان المنطقة العربية. هذا التحول الدراماتيكي دفع بالعديد من الدول العربية إلى التوجه نحو دمشق، انطلاقاً من حسابات متباينة، سواء كان ذلك بهدف التهيؤ للمستقبل، أو في إطار تقييم سياسي استراتيجي معمق، أو حتى من دافع الحرص على استكشاف آفاق العلاقة مع القائد الجديد للإدارة السورية، أحمد الشرع، وتقصي توجهاته وسياساته المرتقبة.
تستهدف هذه الورقة البحثية تسليط الضوء على كيفية تعامل دول المغرب العربي مع هذه التطورات المتسارعة في سوريا، وكيف تم تحليلها واستيعابها، وما هي السيناريوهات المحتملة لمواجهة التداعيات الناجمة عن هذا التحول الجوهري، لا سيما بعد أن اعتقدت بعض دول المنطقة أن الثورة السورية قد طويت صفحتها نهائياً، على غرار ما حدث مع ثورات الربيع العربي.
في الجزائر، بدأت المؤسسات الرسمية في "بلد المليون شهيد" في التكيف مع المستجدات الطارئة على الساحة السورية، وذلك على الرغم من الهدوء الظاهري الذي عكسه بيان وزارة الخارجية، والذي يرى فيه بعض المراقبين نوعاً من الحذر والترقب. ويعود ذلك إلى أن سوريا لطالما مثلت حليفاً تاريخياً للجزائر منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو ما يجعل الجزائر حريصة على ألا تكون "خارج السياق السوري الجديد"، بغض النظر عن التغيرات العميقة التي شهدتها البلاد إبان نجاح الثورة.
لطالما سعت الجزائر، على مر العقود، إلى أن تظل سوريا لاعباً محورياً في "الملعب العربي"، قادراً على تحقيق التوازن الاستراتيجي والتكتيكي، سواء في علاقاتها مع القاهرة أو مع دول الخليج، أو في سياق القضايا والمشاكل التي تواجه المغرب العربي. وقد استمرت الجزائر في هذا الرهان حتى الآن.
لذا، فإن الخيارات المتاحة أمام الجزائر في احتضان التطورات السورية الأخيرة محدودة نسبياً. والسؤال الجزائري الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة هو: ما هي السبل التي يمكن أن تتيح للجزائر الانخراط الفاعل في مستقبل سوريا، خصوصاً مع "الإشارات الإيجابية" التي يرسلها أحمد الشرع إلى مختلف دول العالم؟
وعليه، سارعت الجزائر، فور سقوط نظام بشار الأسد، إلى الإعراب عن "وقوفها إلى جانب الشعب السوري الشقيق، الذي تربطه بالشعب الجزائري أواصر تاريخية متينة من التضامن والتآزر". كما دعت "جميع الأطراف السورية إلى الوحدة والسلام والعمل المشترك من أجل الحفاظ على أمن الوطن واستقراره ووحدة وسلامة أراضيه"، وشددت على أهمية "الحوار الشامل بين جميع أطياف ومكونات الشعب السوري، وتغليب المصالح العليا لسوريا الشقيقة، بعيداً عن أي تدخلات أجنبية".
لا شك أن موقف الجزائر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بموقعها الإقليمي، سواء على الصعيد المغاربي أو العربي. ومن هذا المنطلق، تعتبر الجزائر أن سياستها تجاه سوريا لا تنفصل عن رؤيتها للعلاقات العربية البينية، والتي توليها أهمية قصوى لكلا البلدين.
يمكن القول إن المسارعة الجزائرية إلى إعلان ذلك الموقف تأتي في سياق محاولة السلطة استباق أي تحركات اجتماعية أو سياسية قد تستغل الوضع السوري الجديد لإحياء ما يسمى بـ "الحراك الشعبي"، الذي شهدته الجزائر في عام 2019. هذا الأمر من شأنه أن يعيد البلاد إلى دائرة الاحتجاجات، وهو ما دفع بالرئيس عبد المجيد تبون إلى الإسراع في فتح حوار مع مختلف مكونات المشهد السياسي الجزائري، بهدف سد الباب أمام "المجهول" الذي حذرت منه العديد من الأطراف السياسية والنقابية في الجزائر، الأمر الذي استجاب له النظام بالشروع في الإعداد لحوار وطني مرتقب.
يبقى السؤال مطروحاً: هل ستتأثر الجزائر مستقبلاً بتفكك المحور السوري الروسي الإيراني الصيني إلى حد ما، أم أنها قادرة على الاستمرار ضمن هذا المحور من خلال تعزيز علاقاتها الثنائية مع هذه الدول، بعيداً عن حسابات المحاور التي لم تراهن عليها كثيراً، وذلك بدليل علاقاتها التي توصف بـ "الاستراتيجية" مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج وبعض دول الجوار الإقليمي، وخاصة تونس وليبيا؟
في المقابل، تبدو الجارة المغرب في موقع أكثر أريحية واستعداداً. فقد استثمر الملك محمد السادس ببراعة في الثورة السورية، وتبنى نظامُه قراءةً للأحداث أثبتت الأيام دقتها، حيث كان يرى أن استمرار النظام السوري أمر صعب. لذلك، استقبلت الرباط قادة المعارضة السورية، واحتضنت في عام 2012 اجتماعات مؤتمر "أصدقاء الشعب السوري"، الذي اعترف في مراكش بالائتلاف السوري المعارض "كممثل شرعي للشعب السوري".
كان ذلك بمثابة إعلان عن وجود حاضنة مغربية للمعارضة السورية. بل إن ملك المغرب كان أول شخصية عربية في السلطة تقوم في عام 2012 بزيارة لمخيم "الزعتري" للاجئين السوريين في الأردن، كما استقبلت الرباط الآلاف من هؤلاء اللاجئين.
لقد كان احتضان مؤتمر "أصدقاء سوريا" في المغرب بمثابة "المسمار الأخير" الذي دقه ملك المغرب في نعش العلاقات المغربية مع نظام الأسد في سوريا، والتي كانت فاترة بطبيعتها منذ حقبة الستينيات، وذلك بسبب الخلاف الجوهري بين النظامين على خلفية انقلاب وزير الدفاع آنذاك، حافظ الأسد، على الرئيس نور الدين الأتاسي، وهو أمر لا تستسيغه الرباط التي ترفض أي انقلابات في تفكيرها السياسي. وهذا هو ذات الموقف الذي اتخذته من الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، عندما قام بانقلاب على الرئيس بورقيبة، وظلت العلاقات التونسية المغربية لنحو 4 سنوات في شبه قطيعة. بل حتى عندما استؤنفت العلاقات قبيل وفاة الملك الحسن الثاني، لم تتجاوز إطار البرود، إلى حين وقوع تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، حيث كانت الدوافع الأمنية أحد أهم أسباب طي صفحة الماضي، ولو جزئياً.
وكما استقبل المغرب معارضين للرئيس بن علي وأقاموا هناك لسنوات طويلة، فعل الشيء نفسه مع رجال أعمال وسياسيين فروا من بطش نظام حافظ الأسد في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، الأمر الذي أثار حفيظة النظام السوري، قبل أن ينتهي الأمر إلى شبه قطيعة بين الطرفين.
ولا شك أن تنافر الأجندات والحسابات السورية والمغربية تاريخياً حول العلاقة بالكيان الصهيوني خلال الصراع العربي الإسرائيلي في فترة الستينيات، أو خلال المرحلة اللاحقة منذ مفاوضات أوسلو وصولاً إلى اتفاقيات "أبراهام"، وانتهاءً بالاتفاق الثلاثي بين المغرب وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، والذي أدى إلى فتح علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، سيكون له تداعياته على العلاقات المغربية مع "النظام السوري الجديد"، بما يوفر للمغرب "أجنحة" جديدة على مستوى التموضع الإقليمي.
تحملت تونس على عاتقها تراكمات موقف "نخبة عروبية" تمكنت على مر العقود من التأثير في التوجهات الرسمية للدولة، واستمالتها لصالح تعزيز العلاقات مع النظام السوري. وقد استفادت هذه النخبة من وجود المئات من الطلبة التونسيين الذين درسوا في سوريا وتأثروا بخطابها وسياساتها ورموزها، وشكلوا "قوة ضغط" على النظام التونسي منذ وصول بن علي إلى الحكم في أواخر الثمانينيات.
اتسمت العلاقات بين سوريا وتونس خلال عهد الرئيسين الحبيب بورقيبة وحافظ الأسد بنوع من الفتور، وذلك بسبب مواقف سياسية وأيديولوجية متباينة بشأن إدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ففي حين كان بورقيبة يدعو إلى "حل الدولتين" من خلال ما يعرف بـ "خطاب أريحا" الشهير في مارس/آذار 1965، كان نظام حافظ الأسد يتبنى خيار المواجهة المسلحة مع إسرائيل، وهو ما لم تتقبله دمشق ولا "قاهرة جمال عبد الناصر" في ذلك الوقت، الأمر الذي أدى إلى اتخاذ كل طرف موقفاً أشبه بالقطيعة السياسية، والاكتفاء بالتعاون الاقتصادي بين البلدين.
لكن بورقيبة، والحق يقال، كان ينظر بعين الريبة إلى نظام حافظ الأسد، لذلك كان يتعامل مع حزب البعث بحذر شديد، وغلب على تعاملات النظام التونسي "المخاوف الأمنية" والقلق من الصبغة الأيديولوجية لنظام الأسد، وهو ما كان مرفوضاً من النظام البورقيبي.
ومع وصول الرئيس بن علي إلى الحكم في عام 1987، إثر انقلاب على بورقيبة، تغيرت المعادلة، بتشجيع من "النخبة العروبية" واليسارية التي انضمت إلى الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) وتغلغلت في مؤسسات الدولة، وخاصة على الصعيدين الأمني والدبلوماسي، مما أدى إلى استمالة موقف نظام بن علي باتجاه تعزيز العلاقة مع سوريا. وكانت البوابة الأمنية أبرز المداخل لهذه العلاقة، وذلك في سياق كيفية التعاطي مع ملف الإسلاميين، والذي يعني بالأساس "ملف حركة النهضة". وقد حرص نظام بن علي على الاستفادة من أساليب نظام الأسد في مقاومة التيار الإسلامي.
إلا أن هذه العلاقات سرعان ما قطعت إبان الثورة التونسية في عام 2011، واستضافت الرئاسة التونسية في عهد الرئيس المنصف المرزوقي "مؤتمر أصدقاء سوريا". بل إن الرئيس المرزوقي اتخذ قراراً في فبراير/شباط 2012 بقطع العلاقات مع سوريا "احتجاجاً على قمع النظام السوري للاحتجاجات في البلاد"، كما جاء في بيان لرئاسة الجمهورية.
لكن خروج "حكومة الترويكا" بقيادة حركة النهضة (الإسلامية) من الحكم في عام 2013 عجل – تحت ضغط اللوبي العروبي واليساري – باستئناف العلاقات مع سوريا في عهد رئيس الحكومة المؤقتة مهدي جمعة في عام 2014، حيث تم الاتفاق مع السوريين على فتح مكتب للخدمات الإدارية والقنصلية لفائدة الجالية التونسية في سوريا، قبل أن تعين وزارة الخارجية التونسية في عام 2015 قنصلاً عاماً (دون رتبة السفير) في دمشق، بقرار من الرئيس السابق الباجي قائد السبسي (2014-2019). وظلت العلاقات بين البلدين دون مستوى السفراء إلى حين مبادرة الرئيس الحالي قيس سعيد في فبراير/شباط 2023 بالترفيع في مستوى التمثيل الدبلوماسي التونسي في دمشق، وهو نفس ما فعلته سوريا لاحقاً.
وإذا كان موقف الرئيس التونسي الحالي يبدو منسجماً مع توجهاته الفكرية التي تقوم على المبادئ وليس على الفعل السياسي التقليدي وإكراهاته، كما يقول دائماً، فإن الدبلوماسية اليوم في العالم تخضع لقراءات استراتيجية وسيناريوهات، وقراءة للوقائع والأحداث في أبعادها وآفاقها وتقاطعاتها، واستشراف للتوازنات والمصلحة القومية للدولة، وهو ما جعل الموقف التونسي من الأحداث السورية مرتبكاً، وكلف النظام التونسي إصدار بيانين عبر الخارجية التونسية التي يرسم الرئيس قيس سعيد إطارها واتجاهها، وحاول من خلالهما تلافي "الخطأ" الذي وقعت فيه في الأيام الأولى.
هكذا شددت وزارة الخارجية التونسية في بيانها إثر السقوط الرسمي لنظام الأسد وهروبه إلى خارج البلاد "على ضرورة تأمين سلامة الشعب السوري"، داعية إلى "الحفاظ على الدولة السورية دولة موحدة كاملة السيادة، بما يحميها من خطر الفوضى والتفتيت والاحتلال، وعلى رفض أي تدخل أجنبي في شؤونها". كما ناشدت الخارجية التونسية "كافة الأطراف السورية التلاحم وتغليب المصلحة العليا للبلاد، من أجل الحفاظ على أمن الوطن واستقلاله وسلامته واستقراره، وتأمين انتقال سياسي سلمي".
هل يستطيع النظام التونسي استغلال "الفرصة السورية الجديدة"، بما يعنيه ذلك التخلص من "الإرث الأسدي" في علاقات البلدين الذي أصبح اليوم من الماضي، أم تنجح بعض النخب العروبية في جر النظام التونسي إلى الإبقاء على "مسافة" مع الوضع السوري الجديد، من خلال تخويف القيادة التونسية من ملف التونسيين المقاتلين ضد النظام السوري السابق، والإبقاء على "الهاجس الأمني" في العلاقة مع سوريا الجديدة؟
يرى المراقبون في تونس أن الدبلوماسية التونسية، وفي غالبها من التكنوقراط، لن تقبل بأن تبقى السياسة الخارجية التونسية متفرجة على الوضع السوري الجديد من أجل إرضاء "مجموعة من القوميين"، الذين أظهرت الأحداث تهافت مقارباتهم في التعامل مع الشأن السوري، حيث لم تستفد البلاد لا سياسياً ولا اقتصادياً من سياسة "الاندفاع نحو الحضن السوري" دون أي مكاسب، سواء على المستوى الشعبي أو على مستوى النظام ذاته، وهو ما يرجح أن يسعى الرئيس التونسي إلى تجاوزه في الفترة المقبلة.
ولن نضيف جديداً بالحديث عن الموقف الليبي من مجريات الأمور في سوريا، إذ تماهى مع بعض مواقف دول الإقليم، واعتبر المعارضة السورية المسلحة "جماعات إرهابية"، وأعلن مساندته للنظام السوري، قبل أن تغير طرابلس موقفها، وتعرب خارجيتها لاحقاً عن "انحياز ليبيا التام إلى مطالب الشعب السوري وتطلعاته نحو الحرية والعدالة، ووقوفها المبدئي مع ثورته ضد الطغيان".
وأعربت وزارة الخارجية بحكومة الوحدة الوطنية، المعترف بها من الأمم المتحدة، عن "أمل ليبيا في أن تشكل هذه التطورات انطلاقة حقيقية نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية، تلبي آمال السوريين، وتحقق العدالة لجميع أبناء الوطن". بل أكدت "دعمها الثابت لنضال السوريين المشروع ضد الاستبداد"، معتبرة أن "هذه المرحلة تعد تتويجاً لمسار كفاح طويل من أجل الكرامة والحرية".
وما إيفاد مسؤولين ليبيين إلى دمشق في الآونة الأخيرة إلا دليل على أن العقل السياسي الليبي يهدف إلى الخروج والقطع نهائياً مع المقاربة القديمة مع الشأن السوري، بكل الثقل الذي تمثله تلك العلاقات.
لا شك أن المنطقة المغاربية مقبلة على مرحلة معقدة في علاقتها بالملف السوري، نظراً للتداعيات الجيوستراتيجية التي سيفرضها الوضع الجديد هناك، ومآلاته السياسية والأمنية، وعلى مستوى العلاقات العربية والإقليمية، كما ستلقي بظلالها على التحالفات والصراعات في الإقليم، مما يجعل منطقة شمال أفريقيا على أعتاب تحولات حقيقية خلال المرحلة المقبلة، والتي لا يمكن التكهن باتجاهاتها أو بتأثيراتها المحتملة.